الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
فردَّ عليه آخر ممن امتلأت قلوبهم بالإيمان: فالعالم لا يسير بحركة ميكانيكية ثابتة، إنما بقيومية الخالق سبحانه عليه، فانظر إلى البسط لمن بسط الله له، والقبض لمن قبض الله عنه، ولا تعزل الفعل عن فاعله سبحانه، وتأمل أن الله تعالى واحد، وأن عباده عنده سواء، ومع ذلك يُوسِّع على أحدهم ويُضيِّق على الآخر.إذن: لابد أن في هذه حكمة، وفي تلك حكمة أخرى، ولو تتبعتَ عواقب السعة هنا والتضييق هناك لتراءتْ لك الحكمة.ألا ترى صاحب سعة ورزق ونعم كثيرة، ومع ذلك لم يستطع تربية أولاده؛ لأن مظاهر الترف جرفتهم إلى الانحراف، ففشلوا في حياتهم العملية، وفي المقابل نرى الفقير الذي يعيش على الكفاف يتفوق أولاده، ويأخذون أعلى المراتب؟ إذن: {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ....} [الروم: 37] وفق حكمة يعلمها سبحانه وتعالى.وسبق أن ذكرنا أن في ألمانيا مدرستين فلسفيتين في الإلحاد، إحداهما لواحد اسمه(جيبل)، والأخرى ل(بختر) أحدهما: ينكر أن يكون للعالم إله، يقول: لو كان للعالم إله حكيم ما خلق الأعمى والأعرج والأعور.. الخ فالحكمة في الخَلْق تقتضي المساواة، فأخذ من الشذوذ في الخَلْق دليلاً على إلحاده.أما الآخر فقال: ليس للكون إله، إنما يسير سَيْراً ميكانيكياً رتيباً، ولو كان فيه إله لكان يخلق الخَلْق على صور مختلفة، وتكون له إرادة مطلقة عن الميكانيكا، فأخذ ثبات النظام دليلاً على إلحاده ليناقض مذهب سابقه.إذن: المسألة عندهم رغبة في الإلحاد بأيِّ شكل، وعلى أية صورة، واستخدام منهج مُعْوج يخدم القضية التي يسعون إلى إثباتها.ونقول في الرد على الأول الذي اتخذ من الشذوذ في الكون دليلاً على عدم وجود إله حكيم: الشذوذ الذي ذكرتَ شذوذ في الأفراد الذين يُعوض بعضهم عن بعض، فواحد أعمى، وآخر أعور يقابلهم ملايين المبصرين، فوجود هذه النسبة الضئيلة لا تفسد القاعدة العامة في الخَلْق، ولا تؤثر على حركة البشر في الكون فالصحيح يعوض غير الصحيح.أما النظام الثابت الذي يريده الثاني فعليه أن ينظر إلى الملأ الأعلى، وفي الكون الأعلى من شمس وقمر ونجوم.الخ فسيرى فيه نظاماً ثابتاً لا يتغير، لأن الشذوذ في هذه المخلوقات يفسد الكون كله؛ لذلك خلقه الله على هيئة الثبات وعدم الشذوذ.إذن: في النظام العام للكون نجد الثبات، وفي الأفراد الذين يغني الواحد منهم عن الآخر نجد الشذوذ والاختلاف، فالثبات يثبت حكمة القدرة، والشذوذ يثبت طلاقة القدرة.فيا مَنْ تريد ثبات النظام دليلاً على الإيمان، فالثبات موجود، ويا مَنْ تريد شذوذ النظام دليلاً على الإيمان، فالشذوذ موجود، فما عليككما إلا أن تتفقا وأن ينفتح كل منكما على الآخر لتصلا إلى الصواب.ومسألة الرزق لها فلسفة في الإسلام، فالحق سبحانه أخبرنا بأنه الرزَّاق، فمرة يرزق بالأسباب، ومرة يرزق بلا أسباب، لكن إياك أنْ تغتر بالأسباب، فقد تقدم الأسباب وتسعى ثم لا يأتيك منها رزق، ويخيب سَعْيك كالفلاح الذي يأخذ بالأسباب حتى يقارب الزرع على الاستواء فتأتيه جائحة فتهلكه، فاحذر أن تغتر بالأسباب، وانظر إلى المسبِّب سبحانه.وقلنا: ينبغي أنْ تتحرى إلى الرزق أسبابه ولا تشغلنّ بعدها بالك بأمره، فقد تكفل به خالقك الذي استدعاك للوجود، وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله: ثم يقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37] قال(لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ) لأن مسألة الرزق هذه تحتاج إلى إيمان بحكمة الرازق سبحانه في الإعطاء وفي المنع.ونلحظ على أسلوب الآية قوله تعالى في البسط: {لِمَن يَشَآءُ..} [الروم: 37] وفي التضييق {وَيَقْدِرُ...} [الروم: 37] ولم يقُلْ لمن يشاء؛ لأن البسط في نظرنا شيء محبوب نفرح له ونتمناه فقال {لِمَن يَشَآءُ...} [الروم: 37] لنطمئن نحن إلى أننا سندخل في هؤلاء الذين سيُبْسط لهم في الرزق، أما في التقتير فلم يقُلْ(لمنْ) ليظل مبهماً يستبعده كلٌّ مِنّا عن نفسه.ثم يقول رب العزة سبحانه: {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ...}.
لكن الشائع أن تُستعمل خير في أفعل التفضيل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير» فخَيْر الأولى بمعنى أخير. لكن لمن؟{لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله وأولئك هُمُ المفلحون} [الروم: 38] أي: في الوفاء بحقِّ ذي القربى والمسكين وابن السبيل، يريد بذلك وجه الله، لا يريد رياءً ولا سمعة؛ لأن الذي يفعل خيراً يأخذ أجره مِمَّن فعل من أجله، فمَنْ عمل لله مخلصاً فأجره على الله، ومَنْ عمل للناس رياءً وسمعةَ فليأخذ أجره منهم.وهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] أي: فوجيء بوجود إله لم يكُنْ في باله ولم يعمل من أجله.فمعنى {يُرِيدُونَ وَجْهَ الله...} [الروم: 38] أي: يقصدون بعملهم وجه الله، سواء رآه الناس، أو أخفى عمله، حتى لا تعلم شماله ما صنعتْ يمينه؛ لأن الأمر قائم على النية، فقد تعطي أمام الناس ونيتك أنْ يتأسَّوْا بك، أو لتكُفَّ عنك ألسنتهم وقدحهم في حقك.وحين تعطي علانية بنية خالصة لله فإنها صدقة مخصِّبة للعطاء، مخصِّبة للأجر؛ لأنك ستكون أُسْوة لغيرك فيعطي، ويكون لك من الأجر مثله؛ لأن مَنْ سَنَّ حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة.والقرآن عرض علينا هذه القضية في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر...} [البقرة: 264].ثم يعطينا مثلاً توضيحياً: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264].فمثَل المرائي كهذا الحجر الناعم الأملس حين يصيبه المطر، وعليه طبقة من التراب يزيحها المطر، ويبقى هو صَلْداً ناعماً لا يحتفظ بشيء، ولا ينبت عليه شيء.وهذا المثَل يُجسِّد لنا خيبة سَعْي المرائي، وأنه مغفل، سعى واجتهد فانتفع الناس بسَعْيه، وتعدّى خيره إلى غيره، وخرج هو خالي الوفاض من الخير ومن الثواب.ثم يذكر الحق سبحانه المقابل: {وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265].فالصدقة ابتغاء وجه الله كالأرض الخِصْبة حين ينزل عليها المطر، فيأتي نباتها مضاعفاً مباركاً فيه، فإنْ لم يكُمْ مطر كفاها الطَّل لتنبت وتُؤتي ثمارها، ولو قال: كمثل جنة لكانت كافية لكنها {جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ...} [البقرة: 265] يعني: على مكان مرتفع ليدلَّ على خصوبتها، فكلما كانت الأرض مرتفعة زادتْ خصوبتها، وخلَتْ من المياه الجوفية التي تؤثر على النبات.وهذه الجنة تُرْوى بالمطر يأتيها من أعلى، فيغسل الأوراق والغصون، فتزيد نضارتها وجودتها، والأوراق هي رئة النبات.والله تعالى يترك لآثار الذات في الناس تذكرةً وعبرة، فواحد يفعل الخير بآخر ليشتريه به، أو ليُخضع عنقه بهذا الجميل، فتكون النتيجة الطبيعية أنْ ينكر الآخر جميله، بل ويكرهه ويحقد عليه، وهذا جزاء وفاقٌ لمن عمل العمل لغير وجه الله.وهو معنى قولهم: اتَّقِ شر مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا؟ لأنه حين يراك يتذكر ما لك من يَد عليه، وما لك من فضل، فيخزي ويشعر بالذلة؛ لأن وجودك يدكُّ كبرياءه؛ لذلك يكره وجودك، ويكره أنْ يراك.فالحق سبحانه يقول: احذروا أنْ تُبطلوا المعروف بالرياء، أو بالأغراض الدنية؛ لأن معروفك هذا سيُنَكر، وسينقلب ما قدمتَ، من خير شراً عليك. إذن: عليكم بالنظر في أعمالكم إلى وجه الله لا إلى غيره، فإنْ حدث وأنكر جميلك فجزاؤك محفوظ عند الله، وكأن ربك- عز وجل- يغار عليك، ويريد أنْ يحفظ لك الجميل ويدخره عنده.وهذا المعنى عبَّر عنه الشاعر بقوله: وسبق أنْ ذكرتُ قصة الرجل الذي قابلنا في الطريق ونحن في الجزائر، فأشار لنا لنوصله في طريقنا، فتوقف صاحب السيارة وفتح له الباب، لكنه قبل أنْ يركب قال(على كام)؟ يعني: ثمن توصيله. فقال صاحب السيارة: لله. فقال الرجل(غَلِّتها يا شيخ).لذلك يقول بعض العارفين: إن الذين يريدون بأعمالهم وجه الله هم الذين يُغْلون أعمالهم، أي: يرفعون قيمتها، ويضاعفون ثوابها.وقوله تعالى: {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل...} [الروم: 38] بعد قوله: {وَيَقْدِرُ...} [الروم: 37] يدل في ظاهره على أنه يأخذ منك مع أنك مُقِلٌّ، وهذا يدخل في إطار قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...} [الحشر: 9].وقلنا: إن الشارع حكيم، فإذا ألزمك وأخذ منك فإنما ذلك ليعطيك إنْ احتجت، وكأنه يقول لك: اطمئن فقد أمَّنْتُ لك حياتك، إن أصابك الفقر، أو كنت في يوم من الأيام مسكناً أو ابن سبيل، فكما فعلتَ سيُفعل بك.وهذه المسألة واضحة في كفالة اليتيم، فلو أن المجتمع الإيماني عوَّضه عن أبيه عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» لاطمأنَّ كلُّ أب على أولاده إنْ مات وتركهم؛ لأنهم في مجتمع يُعوضهم عن أبيهم بآباء كثيرين.والإنسان إنْ كان آمناً مُنعَّماً، فإنما يُنغِّص هذه النعمة أنها عُرْضة لأنْ تزول، فيريد الله أنْ يُؤمِّن لعبده الحياة الكريمة في امتداده من بعده، وهذا هو التأمين الحق الذي أرسله الله قضية تأمينية في الكون، ليست في شركات التأمين، إنما في يده سبحانه حيث قال: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] فإذا اتقوا الله وقالوا القول السديد، فإن يتيمهم يصادف أناساً يكفلونه، ويخافون عليه، ويتولَّوْن أمره.وسبق أنْ تعرَّضْنا في سورة الكهف لقصة الجدار الذي تبرع الخضر- عليه السلام- ببنائه مع أنه في قرية أهلها لئام منعوهم حتى الطعام. وقلنا: إن سؤال الطعام هو أصدق سؤال، ولا يُرَدُّ سائله، ومع ذلك بناه الخضر، وقال في بيان أمر الجدار: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً...} [الكهف: 82].فصلاح الأبويْن ينفع الغلامين، فيُسخِّر الله لهما مَنْ يبني لهما الجدار، ويحافظ لهما على كنزهما حتى يكبرا، ويستطيعا حمايته من هؤلاء اللئام الذين إذا علموا بأمره نهبوه من هذْين الصغيريْن.ثم يحدثنا الحق سبحانه عن الفارق بين الهدية والصدقة، فيقول: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ...}.
|